2010/07/18

١٤ تموز .. ثورة على الاعتدال السياسي.


قرأت مؤخرا مقالات كثيرة بمناسبة انقلاب/ثورة ١٤ تموز .. ما يستوقفني في اغلب المقالات التي قرأتها هي الصورة النمطية السائدة عن عبد الكريم قاسم .. صورة الرجل العصامي والمتواضع .. فهو مرة "ابو الفقراء" كما تسميه بعض الاقلام الشيوعية .. وهو ثانية "صديق للفقراء" كما يسميه مشرق عباس حين يقول: " الثورة التي يختلف المؤرخون في توصيفها ينفرد زعيمها عبد الكريم قاسم بتعاطف الشارع".. لان "الرجل كان صديق للفقراء، يذكر العراقيون سكنه في بيت صغير متواضع".

ابو الفقراء هو لقب ينتمي لحقل الشعارات .. وهو قد يكون مفيدا في مظاهرة شيوعية في ساحة الفردوس .. ولكنه لا يفيدنا بشيء عند قراءة تاريخنا قراءة جدية .. لان وظيفة مثل هكذا تسميات والقاب هي اثاره العواطف والمشاعر من اجل قمع التفكير.. وخصوصا عندما نعرف ان ستالين ايضا كان يلقب بـ "ابو الفقراء" !!

اولا قاسم لم يكن الرئيس العراقي الوحيد الذي سكن في بيت متواضع .. عارف كما احمد حسن البكر كانا ايضا يسكنان في بيوت متواضعة .. فالقصور والفخفخة الرئاسية اتت مع صدام حسين .. وانت عندما لا تكتفي بـ "لغوة" الشيوعيين العراقيين وتقرأ التاريخ بعمق ستجد ان رجالات العهد الملكي ايضا كانوا يعيشون حياة متواضعة نسبيا .. والحكاية التي تروى عن رئيس الوزراء نوري السعيد وحيدا في السوق يشتري الفاكهة من بقال لم تكن استثناء في ذلك العهد.

ثانيا وهنا المهم، من قال ان معيار الحكم على رجل السياسة هو فقره او غناه ، تواضعة او تكبره ، صداقته للفقراء او نفوره منهم .. مثل هكذا طرح ساذج هو عدم فهم لغاية العمل السياسي .. انت لا تنتقد صدام حسين لانه كان يملك عشرات القصور الرئاسية كما يفعل
صباح علي الشاهر حين يقارن بين بذخ صدام حسين وبين تقشف احمد حسن البكر الذي كان يملك بدلتين مدنيتين فقط يرسلهما للمكوى بالتناوب كما يقول الشاهر .. ولكنك تنتقد صدام حسين او أي سياسي اخر وفقا للقرارات السياسية التي اتخذها ومخلفات تلك القرارات على العراق.

معاوية كان باذخا في حياته وله قصور كثيرة ولكن قراراته السياسية شيدت اسس الامبراطورية الاسلامية ..علي ابن ابي طالب كان يعيش حياة متواضعة ولكنه كان قائدا فاشلا من الناحية السياسية .. بعبارة اخرى وكما يقول
جوليان فروند
في كتابه "جوهر السياسة" : "هدف السياسة ليس انجاز غاية اخلاقية ولكن تحقيق غاية السياسة التي هي الامن الداخلي والخارجي لدولة ما".. بمعنى ان معيار الحكم علي من يتصدى للعمل السياسي هو نوعية قراراته واثر تلك القرارات على امن ومستقبل شعب ما .. هذا هي غاية الفعل السياسي .. واذا ما قام السياسي بذلك .. فسيان بعد ذلك ان كان يسكن في بيت متواضع او في قصر باذخ.

قد يكون عبد الكريم قاسم متواضعا بالمعيار الاخلاقي .. ولكنه بالمعيار السياسي كان مسؤولا عن مسار عسكرياتي انتهى بتدمير العراق .. فقاسم هو العسكري الذي جعل من الانقلاب العسكري منهجا للعمل السياسي .. وقاسم هو الضابط الذي جعل من الدبابة مفردة من مفردات "الحوار" السياسي .. وقاسم هو اول من استخدم شعار دكتاتوري في تاريخ العراق الحديث تحت مسمى "الزعيم الاوحد".


نعم "ثورة" تموز احدثت تغيرات جوهرية في الواقع العراقي .. ولكن التغيير الاخطر الذي احدثته "ثورة" ١٤ تموز هو انها جاءتنا بنمط جديد من الساسة .. ساسة "سايكوباث" يشكّون بكل من حولهم ولا يثقون الا بمن هو قريب بالدم اليهم .. وهنا المسمار الاول في نعش العراق الحديث .. منذ ذلك الوقت وفي جو مشحون بالمؤامرات والخوف من الانقلابات اصبح السياسي يحيط نفسه بـ "اهل الثقة" وليس بـ "اهل الخبرة".. وهنا واحد من اكبر اسباب خراب العراق .. وظاهرة "عبد حمود" ما هي الا نهاية لهذا المسار الذي بدأه قاسم في ١٤ تموز ١٩٥٨.

قبل فترة قصيرة من انقلاب ١٤ تموز، يقال ان نوري السعيد التقى في احدى المناسبات بعبد الكريم قاسم وسأله مداعبا : "كرومي يقولون انك تخطط لانقلاب" .. فرد عليه عبد الكريم قاسم حالفا بشرفه العسكري بان ليس هناك صحة لهذه الاخبار ..ونوري السعيد استنادا لاخلاقيات ذلك الزمان صدق كرومي .. نعم .. حدث هذا ذات عراق ملكي .. عراق لا زالت "الطواطات" الشيوعية تنعت نظامه السياسي بـ"حكم الفرد" .. هذا العراق انتهى مع ١٤ تموز .. بعد ذلك جاء عراق اخر .. عراق يتم فيه تصفية من يشك اعتباطيا بولائهم .. فما بالك بمن تحوم حولهم شكوك التحضير لانقلاب .. بهذا المعنى .. وبهذا المعنى فقط .. كانت ١٤ تموز "ثورة".. ثورة على الاعتدال السياسي النسبي الذي كان سائدا قبل ذلك.

هناك تعليق واحد:

  1. عزيزي كريم
    كتاباتك رائعه جدا
    ولكن لماذا التاخير كل اسبوعين مقال
    ارجوك اكتب بوتيره اسرع
    تحليلاتك اكثر من رائعه
    شكرا

    ردحذف